كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه. فقال: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. وقال كل رسول لقومه: {إني لكم ناصح أمين}، معبرًا عن ثقل التبعة؛ وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة؛ ورغبته في هداية قومه، وهو منهم وهم منه.. وفي كل مرة وقف الملأ من علية القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه؛ ورفضوا الاستسلام لله رب العالمين. وأبوا أن تكون العبودية والدينونة لله وحده- وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين الله كله- وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت.. ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة. وتنبتُّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية؛ لتقوم وشيجة العقيدة وحدها. وإذا القوم الواحد، أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة!.. وعندئذ يجيء الفتح.. ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المكذبين المستكبرين، وينجي الطائعين المستسلمين.. وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده. وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم. وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم.. وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة الله على مدار التاريخ.
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد: هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده- رب العالمين- ذلك أن هذه العبودية لله الواحد، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلًا من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعًا.
ذلك أن كل تفصيل- بعد قاعدة العقيدة- في الدين، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان؛ بل في القرآن كله.. ولنذكر- كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله؛ كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه.
إن لهذا الدين حقيقة؛ ومنهجًا لعرض هذه الحقيقة. والمنهج في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن الحقيقة فيه.. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة.. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية.. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة..
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر؛ ويعرض نموذجًا مكررًا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجًا مكررًا للقلوب المستعدة للكفر أيضًا.. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبارعن الاستسلام لله والطاعة لرسوله؛ ولم يعجبوا أن يختار الله واحدًا منهم ليبلغهم وينذرهم. فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم، فاستبكروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر، وأن يسمعوا لواحد منهم.. كانوا هم الملأ من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم.. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان.. فالملأ كانوا يحسون دائمًا ما في قول رسولهم لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. {ولكني رسول من رب العالمين}.. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني- أول ما تعني- نزع السلطان المغتصب من أيديهم؛ ورده إلى صاحبه الشرعي.. إلى الله رب العالمين.. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك!.. إن مصارع المكذبين- كما يعرضها هذا القصص- تجري على سنة لا تتبدل: نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه. إنذار من الله للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة.. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ!
* وأخيرًا فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق.
وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل- تاركًا مصيرهما لفتح الله وقضائه- فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده.. ولقد قال شعيب لقومه: {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}.. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش؛ ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}.. وهنا صدع شعيب بالحق رافضًا هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: {قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها..}.
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضًا، وأنه لا يجديهم فتيلًا أن يتقوها ويتجنبوها. فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها. وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده.. فلا مفر من خوض المعركة، والصبر عليها، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها؛ وأن يقولوا مع شعيب: {على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}.. ثم تجري سنة الله بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ..
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني، حتى نستعرض النصوص بالتفصيل:
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} وإن الدينونة لهذا الإله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي يحرك الليل ليطلب النهار، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والذي له الخلق والأمر. إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها، كلما قعد لها الشيطان على صراط فأضلها عنه؛ وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى؛ ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية.
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه؛ والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله؛ والذي يتحرك مسخرًا بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزًا؛ وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة؛ فلا يكون هو وحده نشازًا في نظام الوجود كله!
إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ؛ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله؛ وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود.
وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر؛ والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيدًا عن حقيقتها الأصيلة..
وهذه هي اللسمة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به.
{لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات رب وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قومًا عمين}..
تعرض القصة هنا باختصار، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات، كالذي جاء في سورة هود، وفي سورة نوح.. إن الهدف هنا هو تصوير: تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفًا.. طبيعة العقيدة. طريقة التبليغ. طبيعة استقبال القوم لها. حقيقة مشاعر الرسول. تحقق النذير.. لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم، على منهج القصص القرآني.
{لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه}..
على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه، وبلسانهم، تأليفًا لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم، وتيسيرًا على البشر في التفاهم والتعارف. وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة، ولا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة. وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى، مهما جاءهم من أي طريق!
لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول:
{فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف، ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد.
إن دين الله منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله. وهذا هو معنى عبادة الله وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره.. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره.
وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده.. كلها حزمة واحدة.. غير قابلة للتجزئة. وإلا فهو الشرك، وهو عبادة غير الله معه، أو من دونه!
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، وفي صدق الرائد الناصح لأهله:
{إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}..
وهنا نرى أن ديانة نوح.. أقدم الديانات.. كانت فيها عقيدة الآخرة. عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب.. وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة، ومناهج الخابطين في الظلام من علماء الأديان وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن.
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟
{قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين}!
كما قال مشركو العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم!
وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر!.. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل.
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول!.. أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه!